قال
ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقد ناظر
ابن عباس في ذلك أصحابُه فقالوا: أليس قد قال الله تعالى في سورة الفرقان: ((
وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ))[الفرقان:68] إلى أن قال: ((
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ))[الفرقان:70] فقال كانت هذه الآية في الجاهلية) يعني: في أهل الجاهلية، (وذلك أن أناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة. فنزل: ((
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ... ))[الفرقان:68] الآية، فهذه في أولئك) يعني: في المشرك إذا تاب وآمن (وأما التي في سورة النساء -وهي قوله تعالى: ((
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ))[النساء:93]- فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم). هكذا رأى رضي الله عنه، ووافقه جمع من السلف منهم
زيد بن ثابت رضي الله عنه، فإنه قال: (لما نزلت التي في الفرقان ((
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ))[الفرقان:68] عجبنا من لينها؛ فلبثا بعدها سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة)، والغليظة هي آية النساء. والنسخ عند السلف أعم من مفهومه عند علماء الأصول، حيث يطلق عندهم على تخصيص العام أو تقييد المطلق. قال رحمه الله تعالى: (قال
ابن عباس : آية الفرقان مكية، وآية النساء مدنية نزلت ولم ينسخها شيء). وقد ذكر الحافظ
ابن كثير -وهو أوسع من فصل في المسألة- بعد أن ذكر حكم القتل العمد وما جاء فيه من التغليظ أن الذين روي عنهم أنه لا يتوب هم هؤلاء، وذكر كلام
ابن عباس الذي تقدم، وذكر عنه ما رواه
سالم بن أبي الجعد قال: (كنا عند
ابن عباس بعدما كف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا
عبد الله بن عباس ! ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال
ابن عباس : ثكلته أمه! وأنَّى له التوبة والهدى؟! والذي نفسي بيده! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بيده الأخرى يقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني. وايم الذي نفس
عبد الله بيده! لقد نزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان)، قال
أحمد شاكر : صحيح الإسناد. ثم قال
ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر من رواه: (وقد روي هذا عن
ابن عباس من طرق كثيرة، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف:
زيد بن ثابت و
أبو هريرة و
عبد الله بن عمر و
أبو سلمة بن عبد الرحمن و
عبيد بن عمير و
الحسن و
قتادة و
الضحاك بن مزاحم ، ونقله
ابن أبي حاتم) يعني: نقله
ابن أبي حاتم في تفسيره المطول إن لم يكن أطول التفاسير في الأثر، حيث ذكر بأسانيده آثاراً عن هؤلاء من السلف الذين لا يرون توبة القاتل.